فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}.
التفسير: لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له {وأنذر به} قال ابن عباس والزجاج: أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله: {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} [الأنعام: 50] وقال الضحاك: أي بالله. قيل: والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولًا لقوله: {وأنذرهم يوم الآزفة} [غافر: 18] {فأنذرتكم نارًا تلظى} [الليل: 14] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة القرآن قلنا: فقدر مثله ههنا، والمعنى أنذرهم العذاب بقول ينبئ عن شدة سخط الله وعقوبته. أما {الذين يخافون أن يحشروا} فقيل: إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهم، فلعل ناسًا من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقًا فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم. ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمنين لأنهم يعلمون أنهم يحشرون، والعلم خلاف الخوف والظن. وضعف بأن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لابد أن يخاف الحشر سواء كان جازمًا به أو شاكًا فيه. وأيضًا إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص. وقيل: إنهم قوم مسلمون مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين. وقيل: هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالعبث. ومعنى {إلى ربهم} إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة.
أما قوله: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} فقال الزجاج: إن الجملة في موضع الحال من ضمير {يحشروا} أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعًا لهم. فإن كان الضمير للكفار فظاهر، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، ولابد من هذه الحال لأن الحشر مطلقًا ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصرًا وشفيعًا لزم أن لا يكون ناصرًا أصلًا. {لعلهم يتقون} قال ابن عباس: لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي. قالت المعتزلة: فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة. وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد. ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم. «روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين- فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك. فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم طمعًا في إيمانهم» وروي أن عمر قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون. ثم إنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب بذلك كتابًا، فدعا الصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت {ولا تطرد} الآية. فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته. قال سلمان وخباب: فينا نزلت. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} [الكهف: 28] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه. وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي. قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أي يصلون صلاة الصبح والعصر. وقيل: أي يذكرون ربهم طرفي النهار، والمراد بالغداة والعشي الدوام. والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب. قال الجوهري: غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر. ومحل {يريدون وجهه} نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل: ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء؟ فأجيب بقوله: {يريدون وجهه} ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال: هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل.
وأيضًا المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا. ثم علل النهي بقوله: {ما عليك من حسابهم من شيء} قيل: الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين، والأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله: {فتطردهم} كما في قصة نوح {إن حسابهم إلا على ربي} [الشعراء: 113] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم كان الأمر على ما زعموا فيما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم، فالجملتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء. وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك، أما قوله: {فتطردهم} فهو جواب النفي في {ما عليك} وفي انتصاب {فتكون} وجهان: أحدهما أنه جواب النهي، والثاني أنه عطف على {فتطردهم} على وجه التسبب، لأن كونه ظالمًا معلوم من طردهم ومسبب عنه، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: كان يقول كلما دخل أولئك الفقراء عليه بعد هذه الواقعة مرحبًا بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه. والجواب أنه ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما أفرد لهم مجلسًا تألفًا لقلوب المشركين وتكثيرًا لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل، {وكذلك} أي مثل ذلك الفتن العظيم {فتنا} ابتلينا بعض الناس ببعض، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدمًا عليه في المناصب الدينية فيقول: {أهؤلاء} المسترذلون {منّ الله عليهم من بيننا} كقوله: {أألقي الذكر عليه من بيننا} [القمر: 25] والفريق الآخر يرى الأول مقدمًا عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول: أهذا هو الذي فضله الله علينا. وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح. وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد ألبتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها. فكل إنسان يحسد صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعاش عيشًا طيبًا في الدنيا والآخرة. قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزيئات إلا عن حدوثها.
والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مرارًا. وقالت الأشاعرة: في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر. فهو تعالى خالق للكفر. وأيضًا منة الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه. أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا: فتكون اللام لام العاقبة، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلابد من الانتهاء إليه تعالى: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى. وقال في الكشاف: أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.
{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» وقال ماهان الحنفي: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء. فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية. قال في التفسير الكبير: الأقرب أن تحمل الآية على عمومها، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أبدى إشكالًا وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني؟ قلت: لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آية منها على واقعة تناسبها، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي؟! واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائمًا مترقيًا في معارجها مترقبًا أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة {سلام عليكم} ويستأهل لكرامة {كتب ربكم على نفسه الرحمة} {فقل سلام عليكم} إما أن يكون أمرًا بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمرًا بأن يبدأهم بالسلام إكرامًا لهم. قال الزجاج: {سلام} إما مصدر سلمت سلامًا وتسليمًا مثل: كلمت كلامًا وتكليمًا. ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه ودينه، وإما أن يكون جمع سلامة. وقيل: السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر.
{كتب ربكم} من جملة المقول لهم تبشيرًا بسعة رحمة الله وقبوله التوبة. ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجابًا يستحق بتركه الذم. وقالت المعتزلة: كونه عالمًا بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلمًا، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه. {أنه من عمل} من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: إنه من عمل {منكم سوءًا بجهالة} وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل. والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله. {ثم تاب من بعده} بأن يندم على ما فعله {وأصلح} العمل في المستقبل {فأنه غفور} يزيل العقاب عنه {رحيم} يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى: أن الجملة جزاء للشرط، ومن قرأ بالفتح فعلى أن الخبر أو المبتدأ محذوف أي فغفرانه كائن أو فأمره أنه غفور. قيل: إن الآية نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة. {وكذلك} أي كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر {نفصل الآيات} ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل {وليستبين} معطوف على محذوف كأنه قيل: ليظهر الحق وليستبين، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين. من رفع {السبيل} قرأ {ليستبين} بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث، ومن نصب السبيل قرأ {لتستبين} بتاء الخطاب مع الرسول يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] ولم يذكر البرد. وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم، فمنهم من هو مطبوع على قلبه، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلًا منهم بما يجب، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله: {قل إني نهيت} أي صرفت بدلائل العقلية والسمعية {أن أعبد الذين تدعون} تعبدون {من دون الله قل لا أتبع أهواءكم} لأن عبادة المصنوع والمخلوف محض التقليد وعين الهواى {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} أثبت الضلال إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك.
ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله: {قل إني على بينة من ربي} على حجة واضحة من مغفرة ربي وأنه لا معبود سواه {وكذبتم} أنتم به حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتًا عنده بدليل. وقيل: أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن {وكذبتم به} أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان. {ما عندي ما تستعجلون به} يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32] قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون: يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم. {إن الحكم إلا لله} مطلق يتناول الكل. فقال الأشاعرة: لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله، واحتجت المعتزلة بقوله: {يقضي الحق} أي كل ما قضى به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق. ويمكن أن يقال: إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية. وانتصاب {الحق} على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق، أو مفعول به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره. ومثله من قرأ {يقصر الحق} كقوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص} [يوسف: 2] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره {وهو خير الفاصلين} أي القاضي، وإنما كتب {يقض} في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وليوافق قراءة {يقص} {قل لو أن عندي} أي في قدرتي وإمكاني {ما تستعجلون} من العذاب {لقضي الأمر} أمر الإهلاك {بيني وبينكم} عاجلًا غضبًا لربي {والله أعلم بالظالمين} فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره. فإن قلت: أما يناقض هذا قوله: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا} [الكهف: 6] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعًا في إيمانه. قلت: لا، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة {وعنده مفاتح الغيب} أراد أن المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن، قال الحكيم في بيانه: إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط، فعلمه بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر- كليات كانت أو جزيئات- وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح ان يقال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو.